تشهد عمليات نهب التحف الأثريــة الجزائريــة وتهريبهــا إلى الخارج، تصـاعداً كبيراً
في السنوات الأخيرة، ما دفـع المسؤوليــن عن مختلــف المــواقع الأثريــة والجمــارك
والأمن إلى دق ناقوس الخطر والتنبيه إلى أن الثروة الأثرية للبلد تتعرض للاستنزاف،
ويجب اتخــاذ المزيد من التدابير لمكــافحة الآفة. وتفكر السلطات في إشراك المواطنين
في حماية آثـارها من خــلال توعيتهــم بأهمية الإسهــام في حماية تاريخهــم وذاكرتهــم
الجماعية من الاندثار.
تمتلك الجزائر ثروة كبيرة من الآثار التي تعود إلى مختلف الحقب التاريخية، بـداية من
عصور ما قبل التاريخ إلى العصريـــن الحجرييــن القديــم والحديث، حيث تنعم منطقــة
«التاسيلي» و»الهقار» في الصحـراء الجزائريــة، بآثــار نــادرة يعود تــاريخ أغلبهــا
إلى 9 آلاف سنة، كما تعاقب على الجزائر غزاة عدة منذ القرن الخامس قبل الميــلاد
إلى غايــة القرن الثــامن بعد الميلاد، مثل الفينيقييــن والرومــان والونــدال والبيزنطييــن
الذين خلفوا وراءهم كنــوزاً أثريــة كبيرة تمثـل حضاراتهم، قبل أن تنعم الجزائر بالفتح
وتحتضـن ممــالك إسلاميــة عدة تركت بدورها آثــاراً كبيــرة، أهمها الآثار العثمــانيــة
(1517- 1830) قبــل أن تخضــع للاحتــلال الفرنســي بيــن 5 يوليــو 1830
و5 يوليو 1962.
لصوص في ثياب سياح تيجة تعاقب مختلف الحضارات عليها لفترات طويلة، تقول مريامة شاوش بن شريف،
أستاذة الهندسة المعمارية بجامعة قسطنطينة ، إن «الجزائر تزخــر بتنوع أثري هائـل
وجد كثيف، وهي ثرية جداً بآثــارها التي تعود إلى مختلف العصـور والحقب الزمنية،
إنها متحفٌ مفتوح في الهواء الطلق».
وتحصي الدكتورة دلية أوغلاون، أستاذة بكلية الهندسة المعمارية بجامعة جيجل «430
موقعاً أثرياً مصنفاً وطنياً بالجزائـر و7 مواقع أثرية مدرجة في قائمة التراث العــالمي
لليونسكو»، بينما يقول مراد بوتفليقة، مدير حماية وترميم التراث الثقـافي بوزارة الثقافة
إن «البلد يتوافر على 500 موقع أثري».
وجلبت هذه الثورة الأثرية الكبيرة أطماع مهربي الآثـار من داخل الجزائــر وخارجهــا،
حيث تشهد البلاد نهباً وتهريباً مستمـراً لآثارها برغم كل التشريعات الصارمة والتـدابير
الميـدانية الرامية إلى وضع حدٍّ لها، وغالبـاً ما تتطرق الصحف المحلية إلى أخبار تتعلق
بالقبض على تجار آثار جزائريين قاموا بنهبها وكانوا ينوون تهريبها إلى الخارج قبل أن
يتم القبض عليــهم في أحد المــراكز الحدوديــة البريــة أو في أحد المطــارات، أو القبض
على مهربي آثار أجــانب دخلـوا الجزائر في ثوب «سياح أجانب» للتغطية على نشاطهم
غير الشرعي، حيث كشفت جمارك ولاية إليزي، جنوب شرق الجـزائر، أنها تمكنت عام
2010 من استعادة 834 قطعة أثرية تعود إلى العصرين الحجريين القديم والحديث،
نهبها سياحٌ أجـانب من حظيرة «التاسيلي» للآثار وأخفوها داخل أمتعتهم قبل أن يكتشف
أمرهم في المطار
ويكشف مدير حظيرة «التاسيلي» مقران صالح أن «ما يناهز 10 آلاف سائح أجنبي
يزورون المنطقة سنوياً، غـالبيتهم يفضلون الدخول عبر مركز حدودي بري مع تونس»،
وهو تلميح إلى أن هؤلاء «السياح» يفضلون الحدود البرية الواسعة للإفلات من الرقابة
الأمنية،وكشف مقران أيضاً أن «مصالح الأمن والدرك والجمارك تحبط يومياً محاولات
تهريب آثارعلى الحدود البرية والمطارات».
أرقـــامٌ كبيـــرةتفضل عصابات التهريب الجزائرية والأجنبية القطعَ الأثـرية الصغيرة التي يسهل حملُها
وإخفاؤها وتداوُلها،
وفي هـذا الصدد يقول مراد بتروني، مدير الحماية القانونية وتثمين التراث بوزارة الثقافة
«التحف الأثرية الأكثر استهدافاً وتضرراً هي نقود العصور القديمة والوسطى المصابيح
والعناصر المعمــارية ورؤوس الرمــاح المصنوعة من الصوان والحجر المصقول».
وكانت منظمة اليونسكو كشفت في التسعينيات، أن تجار الآثار هرَّبوا نحو 50 ألف
قطعة أثرية إلى الخارج منذ استقلال البلد في 1962 إلى غاية التسعينيات، بينما كشفت
الدكتورة دليلة أوغلاون، أن «الجزائر استــرجعت أزيد من 53 ألــف قطعة أثرية بين
سنوات 1996 و2010 كــانت على وشك التهريــب إلى الخــارج، ومنها قطع نقدية
ذهبية وفضية وبرونزية»،
بينما تعذّر معرفة عدد القطع التي نجح تجارُ الآثار في تهريبها، ودفعها هذا الرقم المهول
إلى التأكيد أن «الكنوز الأثرية للبلاد تشهد نزيفاً وتهديداً دائماً وتصاعداً كبيراً، ما يستلزم
اتخـاذ المزيد من التــدابير المستعجلة والفعالة لمكـــافحة الآفة بشكل أكثر نجاعة إذا أردنا
حماية الذاكرة الجماعية للأجيال والحفاظ عليها من السرقة والضياع».
ويكشف تقريرٌ أمني جزائري أن المقابر الأثــرية القديمة بمدن الشرق الجزائري أصبحت
المصدر الرئيس للآثار الرومــانية والبيزنطية التي ينقب عليها المهربون، خاصة القطع
النقدية الذهبية والفضية والبرونزية والتحف الثمينة.
مصــاعب وتحديــاتيبدو أن الجزائر تواجه مصاعبَ كبيرة وتحديات حقيقية في حفظ كنوزهــا الأثرية لأسباب
عدّة أهمها كثرة مواقعهــا الأثرية التي تنــاهز الـ500 موقع، بعضها بمثــابة «مدن»
كاملة، وتحتــاج كلها إلى حــراسة ويقظة دائميـن، كما أن هنـاك كثيراً من المواقع التي لم
تُكتشف أو أهملت ولم يُنقب عنها رسميـاً، تحوّلت إلى هدف للصوص الآثارالذين ستغلوا
هذا الإهمــال،
كما أن منطقتي «التاسيلي» و»الهقار» اللتين تحويان نسبة مهمة من آثــار العصريــن
الحجرييــن القديم والحديث تتميزان بمساحات شاسعة، ما يصعِّب حراستها، وقد صرحت
وزيرة الثقافة خليدة تومي منذ سنوات بأنه يتعذر على مصالح وزارتها
«حراسة متحف مفتوح في الهواء الطلق يقع في منطقة أثرية شاسعة تتجاوز مساحتُها
80 ألف كيلومتر مربع ببضع سيارات رباعية الدفع».
وتسعى الجزائر منذ نحو 10 سنوات، إلى إلزام كل «السياح» الأجــانب الذيــن يدخلون
صحراءَهــا الكبرى، بعدم التحرك في المنطقة دون دليــل سياحي وحراســة أمنية،
وهذا بهدف الحدّ من حركتهم وتنقيبهم عن الآثــار. وفضلاً عن ذلك،
تتميـز الجزائر بحدودها البرية الشاسعة التي تصل إلى9 آلاف كيلومتر مع بلدان مغاربية
وأفريقية عدة ويضاف إليها 1212 كلم على ساحل البحر المتوسط، وهو ما يصعّب
من مهمة تعقب عصابات تهريب كنوزها الأثرية، والتي اقتحمت الإنترنت أيضاً
وأصبحت تتعامــل مع صفحات «المزادات الإلكترونية» لتحديد التحف الأثريــة المطلوبة
من تجارها في الخارج وقيمة كــل تحفة، حيث «تحتل تجارة الآثار الآن المرتبة الثانية
بعد تجارة المخدرات»، بحسب الدكتورة أوغلان.
إشـــراك المواطنيــنإزاء هذه الصعوبات والتعقيدات، تقوم الجزائر بتكوين المزيد من الفرق الأمنية لمكافحة
الآفة بنجاعة أكبر، كما اهتدت مؤخـراً إلى فكرة «إشراك المواطنين» في عملية حماية
الآثار، خاصة في الصحراء، حيث تنوي السلطات إشراك السكان المجاورين لحظيرتي
«التاسيلي» و»الهقار» في عملية الحماية باعتبـار أنها «مسؤولية الجميع وليس الأمن
فقط»، على حد تعبير مديــر حظيرة الهقار، أحمد عوالي.
ويتم التركيز، في المرحلة الأولى، على البدو الرحل باعتبارهم أغلب سكان المنطقة، على
أن تمتدّ لاحقــاً إلى كــل قبائــل « الطوارق » الذيــن ينتشــرون على مساحــات واسعــة
في الصحراء، ثم كل السكان الذين يقطنون بالقرب من مختلف المــواقع الأثرية الـ 500
بمختلف أنحاء البلد، بهدف إقناعهم بالمساهمة في حراسة الكنوز الأثرية لمنطقتهم وإيقاف
النزيــف الذي يتهدد الــذاكرة الجماعية للجـــزائـــرييـــن
جريدة الاتحاد