تــاريخ الحضـــارة الاسلاميـــة قبل أن نبدأ فى دراسة تاريخ الحضارة الإسلامية لابد أن نفهم أولا معنى كلمه حضارة حتى نستطيع أن ندرك جيدا قيمه
حضارتنا الإسلامية .
المقصود من كلمه حضارة :كلمه حضارة لها تعاريف عديدة، سوف نقتصر على عدد قليل منها:
فهى تعنى عند ابن خلدون حين خص بها عصور المسلمين الوسطى :
الأحوال الزائدة على الضرورى من أحوال العمران ، أو بمعنى آخر ، رفاهة العيش. لذلك نرى مظاهرها تظهر فى المدن
والأمصار والبلدان والقرى ، أى فى الحضر،فى حين تختفى تلك المظاهر فى البادية ، ولذا يمكن أن نقول أن كلمه حضر
خلاف كلمه بدو .
وعليه رأى ابن خلــــدون أنه يمكن أن نقول أن كلمه حضــارة تقابل أو ترادف كلمه ملك أو سيادة، وأن الملك والسيــادة
ضروريين لازدهــار العمران، وذلك لأن الحضارة يجب أن تلازمها سيادة ونظام واستقرار، حتى تنمو وتزدهر وتطور.
هذا فى حين أطلق العرب على لفظه الحضارة : التمدن أو التمدين ، أى التنعم بالإقامة فى المدينة .
والحضارة التى نحن بصدد دراستها الآن هى التى توصف بالحضارة العربية أو الإسلامية ، ولكن لاينبغى علينا أن نظن
بهذا الوصف أن سكان الجزيرة العربية هم الذين أسهمــــوا وحدهم فى هذه الحضارة حين اعتنقوا الإسلام ، فان المقصود
بلفظى العربية أو الإسلامية ، جميع الشـعوب والأمم التى تكلمت العربية وعـــــاشـت فى دار الإسلام فى ظل حكم الخلافة
الإسلامية ، بصرف النظر عن الجنس أو الدين،وعليه يدخل تحت هذا الوصف مع عـرب الجزيرة ، الفرس والمصريــون
والسـوريـون والمغاربة والأسبان والأرمن،كما يدخل تحت هذا الوصف أيضا مع المسلمين النصارى واليهود والمجـــوس
والصابئه.
أسس الحضارة الإسلامية :وإذا أردنا أن نلقى الضوء على أسس الحضارة الإسلامية ، فينبغى أن ندرك جيدا أنها مثل أى حضارة لم تظهر من العدم ،
بـــل إنهــا استـمدت مصـــادرها مما سبـقها مـن حضــارات . فـــان أى حضـــارة قـــائمـه هى دائمـــا خلاصه لمـــا سـبقهــا
مـن حضــارات وان أضيف إليها عناصر جديدة ، تميزها بشخصيه خاصة ، فان أى حضـــــارة ما إنما هى أخذ وعطـــاء ،
ونتيجة مشتركه لعنــــاصر قديمه وأخرى جديدة ، ولذلك يمكننا أن نقول ببســاطه أن أسس الحضـــارة الإسلامية ترجع أولا
إلى العرب ، وثانيا إلى سكان البلاد التى فتحها العرب .
والعرب هنا نقصد بهـم سكـان الجزيرة العربية فى داخلها وأطرافها ، فإننا نجد مثلا أن العرب داخل الجزيرة العربية كانـوا
يحيـــون حيـاه البداوة بسـبب طبيعة تلك البقعة التى تخلو من الماء وبالتإلى من الزرع، مما أفقدهم الاستقــرار فى حيـــاتهم ،
فعــاشوا تلك الحياة البدوية ، بينما كانت أطراف الجزيرة العربية مـن وديان تسقط عليها الأمطار بسبب إحـــاطة البحر بها ،
فوجد الزرع بها ومن ثم التجارة ، فعاشوا حياه التحضر ، وأصبحت تلك الوديـــان مــراكز حضــــاريه من صنع العـــرب ،
بعضها لانعرف منه غير الاسم فقط ، وبعضها ترك لنا آثارا أو نقوشا تدل على قيام حضارتهم.
ففى شرق الجزيرة مثلا وجدت حضــارة الكلدانيين والآشوريين ، وفى شمــــالها وجدت حضـــارات الآراميين والكنعـــانيين
أو الفيـنيقيـين ، وفى الجنـوب حضـارات السبأيين والحمــيريين ، وفى الغرب على طول ساحل البحر الأحمر حضارة القلزم .
ولكن لايمكن أن نبين أثر هذه الحضارات العربية القديمة ، حيث لم يكشف عن أغلبهـــا إلا فى العصر الحديـــث ، بعد تقدم
العلم ونجاحه فى فك رموز النقوش التى كتبت بخطوط أهل حضارات الجزيرة القديمة .
هذا وقد أسهم العرب بنصيب كبير فى الحضارة التى نحن بصدد دراستها ، بعد
ظهور الدين الإسلامى على يد رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام ، وذلك لما ترتب على ظهور هذا الدين من انتشار للعرب
فى الأرض كغزاة وفاتحين ، بدينهم الإسلامى الذى يعبر عن الحياة العربية بما فيها من تقــاليد ، بالإضـافة إلى مـــا يحتويه
من تنظيم وتشريع ، مما أسهم فى إنشاء حضارة ذات طــابع عربى إسلامى . فــان الأديان دائمــــا ما يكون لها أثر كبير فى
الحضارات ، حيث أن الفنون والآداب والعلوم فى أى حضارة أو أمة ما ، دائمــا مـــا يدور فلكهــا حول الدين السـائد فى هذه
الأمة أو فى هذه الحضارة .
وفى نفس الوقت لايمكن أن ننكر أبدا أن سكان البلاد التى فتحها العرب،الذين كانوا ورثه لحضارات قديمه ، سواء فى البحر
الأبيض أو الحضارات الأسيوية ، كان لهم أثرهم فى الحضـارة الإسلامية . فقد كــانـت الحضـــارة اليونــانية التى وفدت إلى
العرب عـن طريق البلاد المصرية التى فتحـها العـرب مثلا ذات نصـيب كبـير فى التأثيـر فى الحضــارة الإسلامية.ثم تلاهــا
الحضارة الأسيوية أى حضارات الصين والهند وفــارس ووسط آسيـا ، التى وفدت إلى الحضـــارة الإسلامية عن طريق بلاد
فــارس على وجه الخصوص . هـذا فى حـين نمت حضارة سـكــان البلاد التى فتحها العرب المسـلميــن بفضل ما أوجدوه فى
هذه البلاد من استقرار .
وعليه امتزجت الحضارة العربية بحضارات البلاد التى فتحها العـرب المسلمين فتكونت الحضــارة الإسلامية التى نحن بصدد
دراستها الآن . وقد كانت هناك عده عوامل ساعدت على المزج بين حضارة العرب والحضــارات الأخــرى و أدى بدوره
إلى ظهور الحضارة الإسلامية . وهذه العوامل هى :
العـــامل الأول : هو التعريـــب، ويقصد به جعل اللغة العربية ( لغة الفاتحين ) اللغة الرسميـــة فى الدواويـــن ( أى فى المصالح الحكومية )،
ولغة التعـــامل مع الفاتحين ، حيث كانت الخلافة العربية التى تمثلها ألخلافه الأموية تشتمل على أجنـــاس تتكلم لغات متعددة
( مثل الفارسية واليونانية والقبطية ) ، وهذا لأن اللغة العربية هى بالطبع لغة القرآن المقدســة ولغة الفاتح أيضا ، وتعلمها
يعد مظهرا من مظاهر طاعة العرب ، ومن هنا أقبلت الشعــوب المفتوحة على تعلمهـــا وهجرت لغاتهــا الأصليــة ، وعليه
أصبحت اللغة العربيــة لسانا حضريا فى جميع أمصارالاســــلام ، ومن ثم اتسع المجتمع العربى الإســـلامى حتى صـــارت
حدوده تمتد من البر الغربى للخليج الفارسى شرقا إلى المحيط الأطلسى غربا
العـــامل الثـــانى : هو ترك شعوب الخلافة العرب من غير المسلمين لأديانهم وتحولهم إلى الإسلام . فلقد كان هذا التحول بلا ريب عـامل من
عوامل إبراز حضارة الإسلام. إذ أن الشعوب التى أسلمت لم تنقطع نهائيا صلتها بحضاراتها الســابقة ، وإنمــا ابتعدت عن
كثير من عناصرها فقط ، فى حين اكتسبت فى نفس الوقت عناصر جديدة غيرت من معتقداتهـــا وتفكيـــرها ، خــاصة وأن
الإسلام لم ينتشر بينهم بحد السيف ، بل انتشر بينهم بحسن المعاملة وتنظيم الضرائب فيما بين تلك الشعـــوب ، مثلما فعـل
الخليفة عمر بن عبد العزيز(99هـ - 101هـ / 717مـ - 720مـ ) مع شعــــوب البــلاد المفتوحة هذا غير أن الشــرق
كان مهيأ فى هذا الوقت أيضا لمولد دين جديد يحسم قضيه طبيعة الله الواحد المجرد ، بطريقه لاتحتاج إلى برهـــان ، عـلى
عكس ما سبقه من الأديان ، التى كانت تناقش الطبيعة الالهيه دون أن تصل فيها إلى قرار . وعليه كان التحول إلى الإسلام
من شأنه هو الأخر أن يتسبب فى ظهور الحضارة التى سميت باسمه .
العـــامل الثــالث: أما العامل الثالث فهو يتصل بالعاملين السابقين وهو: ثوره الشعوب المفتوحة على الخلافة الأموية. فقد كان العرب الفاتحين
فى عهد الأمويين يحتقرون الشعوب المفتوحة ويطلقون على أهلها اسم رعايا ، أى أن العرب هم رعاتهم الذين يدافعون عنهم
وأصبحت كلمه مولى تطلق على من أسلم من غير العرب ، بمعنى أنه يتبع العرب وليس مساويا لهم . وعليه كــانت كلمتــا
مولى وعربى كلمتان متقابلتان طوال الفترة الأخيرة من حكم الأمويين ، وذلك حتى تدخل الخليفة الأموى عمر بن عبد العزيز
فى إصلاح شأن الشعوب المفتوحة وذلك بالقضاء على هذه المعاملة السيئة، ولكن للأسف هذا التحسن لــم يستمر بعد وفــاته
وعاد إلى ما كان عليه بعد موته ، ولذلك ظهرت حركه ثوريه من جانب الشعوب المفتوحة عرفت باسم الشعــوبية ، تنـــادى
بالمساواة وبحياة أفضل ، وقد نجحت هذه الحركة فى إسقاط الخلافة الأموية ، وفى أن تقيم الخلافة العبـاسية ، التى اعتمـدت
على عناصر غير عربيه، كان من أهمهم الفرس ، وعليه اتخذت الخلافة العباسية تقاليد تلك العناصر فى الحكـم والاداره لكى
توطد علاقاتها بين تلك الشعوب ، فكان مجئ الخلافة العباسية نقطه تحول فى تاريخ الحضارة الإسلامية ، إذ أعتبر عصرها
العصر الذى تم فيه نمو الحضارة الإسلامية .
العامـــل الرابــع : وهذا العامل يتصل أيضا بالعامل السابق ، وهو : التفتت السياسى لوحده الخلافة العباسية . وذلك نتيجة لاستمرار الجهــود
القومية للشعوب المفتوحة ( الشعوبية ) ، فكما قضت الشعوبية على الخلافة الأموية ، فإنها قضت أيضا على وحده الخلافة
العباسية، فبعد ثلاثة قرون من ظهور الإسلام بين تلك الشعوب نجد العالم الإسلامى قد تفتت إلى ثلاث خلافات :
خلافه بغداد العباسية ، وخلافه القاهرة الفاطمية ، وخلافه قرطبة الأموية . فكـان هذا الانحــلال السياسى سببا فى ازدهـــار
الحضارة الإسلامية ، وذلك بسبب تعدد مراكزها وتنوع عناصرها التى جــاءتها من كل شعب فى دار الإســلام . ومن ثم
استكملت الحضارة الإسلامية معظم عناصرها فى القرنين الرابع والخـامس الهجريين، فرسخـت وثبتت أقدامهـــا ، حتى أنها
تصدت للغزو المغولى لأراضيها ، حتى بعد انتقال مركـزها من العــراق إلى مصر . حيث بلغت فى مصر أقوى ازدهـــار
لها عن أى عهد سابق للإسلام ، إذ أن مصر هى الوحيدة من بين دول الإســـلام التى استطــاعت أن تصد زحف المغـــول .
هذا بل نجد أن المغول أنفسهم قد تحولوا إلى الإسلام بعد استقرارهم بين المسلميـن ، وأخذوا بمظاهر الحضــارة الإســلامية ،
مع أن من شـاهد مذابح المغــول وتدميــرهم لمراكز الحضـــارة الإســـلامية ، ظن أن الحضـــارة الإسلاميــة قد قضى عليها ،
وأن بعثها من جديد يحتاج إلى آلاف السنين .
وعليه نخلص من حديثنا السابق إلى أن الحضارة الإسلامية قد وجدت أسسها فى العرب والشعوب المفتــوحة ، وأن عوامــل
المزج بين مؤهلاتهم قد ظهـــرت ببطء ، ممـــا أوجد هذه الحضــارة التى حملت سمتهم جميعـــا .