المختص في المخطوط، مولاي عبد الله سماعيلي، لـ"الفجر الثقافي"..
أدرار كنز الجزائر في المخطوطات، ومن دون تحقيق ستضيع الخزائن الـ84 ينتمي إلى عائلة تواتية تملك خزانة مخطوطات بمنطقة كونتة، التابعة لمدينة أدرار، نشأ وسط أوراقها وعبقها التاريخي، درس الآداب في البداية ثم واصل الدراسات العليا بالقاهرة تخصص علم المخطوط وتحقيق النصوص.. يؤكد لنا أن كنز الجزائر في المخطوطات هو خزائن أدرار الـ84، ولكن ماذا نفعل حتى لا تضيع علما أنها فقدت جزءا كبيرا من إجمالي عدد المخطوطات الكلي الذي كان قبل خمسين سنة.. التقت به "الفجر" على هامش توقيع كتابه الجديد، والذي خصصه لتحقيق مخطوط علمي يعد الأول من نوعه في الجزائر.
لماذا هذا التوجه إلى المخطوطات، وما هي دوافعك في التوجه نحو المخطوط العلمي؟على كل حال بداية تحقيق المخطوطات في العالم الإسلامي كانت مع المستشرقين الذين عكفوا على استنطاق كنور العرب في المخطوطات، ولكن لحد الآن لم يحقق إلا الجزء اليسير.. في الجزائر مدينة أدرار تحوى 3000 مخطوط ولم يحقق منه إلا 10 أو 11 مخطوط فقط، طبعا علينا أن نفرق بين المخطوطات التي هي عبارة عن نسخ لأمهات الكتب العربية الفقهية أو الأدبية، وإنما ما يهم هو تحقيق المخطوط الخاص بالتأليف المحلي. أما عن المخطوط العلمي فهو الذي يتناول علوم رياضيات، الطب، النبات، البنيان، الفيزياء.. هنالك رسائل في الكيمياء عن كيفية صنع الأحبار أو الحبر في خزائن توات، غير أن الباحثين المهتمين بالتحقيق يبتعدون عن تحقيق المخطوط العلمي، وحتى المخطوط بصفة عامة، وذلك لأن الناسخ يعمل حسب مستواه العلمي قد يزيد ويحذف وهذا يؤثر على المخطوط.. وأما المخطوط العلمي شيء آخر لأنه يحتوى على معلومات علمية، ونحن نعرف أن الذين يتجهون إلى التحقيق هم من طلبة العلوم الإنسانية التاريخ والآداب والآثار وما إلى ذلك. أما دارسوا العلوم في الجزائر لا يهتمون على الإطلاق بالمخطوط، وبالتالي أصحاب العلوم الإنسانية لا يقتربون من المخطوط العلمي لضعفهم في العلوم وعدم إلمامهم بمصطلحاته وقد لا يجدون من يساعدهم في ذلك.
إذن.. ما الذي أغراك في تحقيق مخطوط علمي وأكثر من ذلك مخطوط فلكي؟بحكم متابعتي لحركة التحقيق في الولاية وجدت أن كل المخطوطات المحققة هي في مجال الآداب والفقه وما إلى ذلك، كما أنني أدركت أن العرب كلهم يبتعدون عن المخطوط العلمي، وبالتالي هو الأكثر عرضة للضياع من مخطوط العلوم الإنسانية وبالنسبة إليّ كباحث محلي كان لابد أن أتحمل مسؤوليتي التاريخية على الأقل بالنسبة لمنطقة توات. كذلك من بين العلماء الذين درسوني في معهد الدراسات العربية بالقاهرة، العالم أحمد فؤاد باشا، وهو عالم رياضيات وحقق كثير من المخطوطات العلمية في مصر واليمن الأمر الذي شكل لي حافزا كبير، وعليه عندما عدت إلى الجزائر أدركت إدراكا تاما أن المخطوط العلمي سيضيع وعليه بدأت البحث.
كيف وقع اختيارك على مخطوط "روض الزهر اليانع" لمحمد المحفوظ القسطني؟ وكيف تمكنت من البحث داخل خزائن توات؟كانت عندي في بداية البحث فهارس أولية لمجموعة من المخطوطات، ثم توجهت إلى الخزائن الكبرى بمنطقة توات، بدأت بخزانة كوسام الخاصة بالأسرة العلمية البلبلية، فلم أجد مخطوطا يستحق أن يكون رسالة أكاديمية غير أنني وجدت رسائل في الكبس لابن الوليد وكذلك تقريب في الكبس دائما لسيدي البكري، وجدت أيضا كتاب لابن سعيد السوسي وهو من المغرب وهذا لا يعنيني.. ذهبت أيضا إلى خزانة تمنطيط، وأنا أتناول أطراف الحديث مع الشيخ عبد الحميد البكري قال لي:"هناك مخطوط أشعر أنه بالضبط ما تبحث عنه، ولديّ نسخة أولية منه ويوجد في خزانة المطارفة" ولم يحدثني أكثر، ثم ذهبت إلى منطقة تنجورارين وانطلقت إلى خزانة المخطوطات بمطارفة للأسرة العلمية الراشدين المُسَمين الآن ببني عبد الكبير، وفتحوا لي أبواب خزائنهم، فوجدت أربعة نسخ من المخطوط نفسه، تحتوي على اختلاف وتحريف، اثنان منها غير صالحة لأنها مخرومة، ثم أرشدني المطارفة إلى أن هناك نسخة أخرى موجودة لدى خزانة بن الوليد. وعندما نقول خزانة لابد أن نعرف أننا في أدرار يوجد لدينا 84 خزانة محصية وكل خزانة تحوى من 20 مخطوطا إلى 2000 مخطوط. فعثرت بالفعل على نسخة بن الوليد واعتمدت عليهما حتى يكون المكان مختلف وبالتالي الناسخ مختلف لأن النسخة الأصلية غير موجودة، فجعلت نسخة المطارفة أساساً ونسخة خزانة بن الوليد نسخة مقابلة.. ثم بدأت عملية التحقيق.
كيف كانت عملية التحقيق، هل من أدوات وتقنيات خاصة في تحقيق المخطوط العلمي؟أول الصعوبات التي واجهتها هي المصطلحات الفلكية وقراءة الجداول وأبراج الشمس ومنازل القمر، كل هذه المصطلحات الفلكية صعبة رغم أنني حضرت نفسي قبل ذلك، لكنني عندما دخلت في صميم العمل صرت مجتهدا أكثر في الإلمام بعلم الفلك، والمشكلة أن التأليف في الفلك القديم ليس كالتأليف في الفلك الحديث، لأن الفلك الحديث يعتمد على الفيزياء. أما الفلك القديم فهو موسوعي يختلط فيه الفلك بالفقه والقرآن الكريم بالأشعار والأبيات الشعرية، فمثلا صاحبنا الشيخ محمد المحفوظ عندما تحدث عن التاريخ الهجري وطرح إشكالية بداية العمل به، وهل كان محددا بيوم الاثنين أم الخميس، أم كان محددا بيوم الهجرة أو بتاريخ خروج الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة أم بوقت وصوله للمدينة، في هذا يدخل الشيخ محمد المحفوظ في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم يبسط المقال فيها، يعود كذلك للصحابة ويرجع بعد ذلك إلى الأنبياء، فيتكلم عن إبراهيم وعن يشوع وموسى ويونس، كما تكلم عن الاختلاف في يوم عاشوراء وعليه التأليف القديم هو تأليف استطرادي وشمولي.
أعود وأخبرك أنني كنت أريد أن أخدم أحد أعلام منطقتي، كما أنني وجدت المساعدة من طرف أصحاب الخزائن، وبصفتي من أبناء مولاي اسماعيل بكونتة ونملك أيضا خزينتين.. كان لكل ذلك دور في تسهيل عملية البحث. أما صاحب المخطوط فهو محمد المحفوظ القسطني، ورد عنه سطر واحد في مخطوط أخر يسمى "الدرة الفاخرة" للتليلاني يتكلم فيها عن الأولياء والعلماء الذين سبقوه، فيقول عنه: "أنه عالما مجتهدا عاملاً، ومن تلاميذه سيدي محمد الونقالي". ولم أجد غير ذلك، ثم بدأت أوسع البحث عنه في كتاب "قطف الزهرات في أخبار علماء توات" و"سلسلة النواة" و"النبذة في تاريخ توات"، فلم أجد أكثر من ذلك. بعد ذلك ذهبت إلى الأسرة التي ينتمي إليه هذا العالم الجليل، فأضافوا لي الكثير من المعلومات عنه فوجدت أنه كان صاحب مدرسة دينية وأن من تلاميذه وبني عمومته العالم الجليل عبد الحفيظ القسطني، وكانت له خزانة كبيرة لم تضيع إلا منذ عشرين سنة وكان مكلفا بالإفتاء والقضاء الشرعي بمدينته، كما كان يكتب التركات، والمبيعات والمشتريات في مدينته التي تسمى دلدول، وتقع على بعد 174 كلم من أدرار، وله توقيع أو ختم، وهو عبارة عن دائرة عبد الحميد ويكتب اسمه في شكله. المخطوط هذا ورد في 29 ورقة أو لوحة مخطوطية ذات وجه وظهر، وهذا أكبر تأليف في الفلك في المنطقة، حيث يقوم هذا المؤلف على شرح هرمي لأرجوزة ابن سعيد السوسي المغربي تسمى المقنع في علم أبي مقرئ وأرجوزة ابن سعيد، هذه هي عبارة عن اختصار لأرجوزة عبد الله البطوي، وبالتالي هو علم تراكمي. وعليه هذا المخطوط يتناول القمر والشمس كفكرة أساسية داخل المخطوط ويتناول أبراج الشمس ومنازل القمر، كما أنه قام بتصحيح كثير من الجداول الفلكية على اعتبار أن تلك الجداول لا تصلح أن تكون أساس فلكي في منطقته هو، وهناك نص في داخل الكتاب يقول فيه :"كنت في سنة 1233 في الشهر كذا في قرية بركان وشاهد معي الحاج عبد الرحمان الصومعي كيف أن القمر والشمس طلعا في المقدر الفلاني، ما يكون هذا دليلا ثابتا عن منطقتنا تختلف عن منطقة فاس وبذلك تكلم عن الصلاة وعن الشاخص الذي هو الظل.. وإلى غير ذلك..
والآن بعد كل هذا التعب والتحقيق لا يمكننا أن نقول إن هذا المخطوط حمل قيمة معرفية وإنما هناك قيمة تراثية فقط؟في نظري هذا المخطوط يجمع القيمتين، قيمة المعرفية من باب العلم بتفكير أجدادنا وبالتالي إعادة النظر في هذا المخطوط، مثلا يأتي فلكي جزائري يريد أن يضع دراسة فلكية لعلم الفلك في الجزائر يستطيع من خلال هذا الكتاب أن يبرز دورة الشمس والقمر ودورة الثمن سنوات في القرن الثالث عشر في منطقة توات، هذا إلى جانب القيمة التراثية، حيث أنه غير مسبوق في التأليف وبالتالي هي إضافة.
برأيك من الذي سيستفيد من هذا التحقيق؟الكتاب موجه للمثقفين، للباحثين في التراث وكذا لطلبة المدارس الدينية، وهي كثيرة في جنوبنا الكبير، لأنهم مطالبون بمعارف فلكية لارتباطها بالصلاة والعبادات.
هل من طموحات أخرى في مجال التحقيق؟أنا أتمنى أن أحقق على الأقل عشرين مخطوطا.. أريد فعليا أن أنكب على ذلك، لأن هذه المخطوطات ستضيع لو أننا لا نقوم بتحقيقها وأتمنى من كل المساهمين في هذه العملية أن يقوموا بدروهم.
وماذا عن مركز المخطوطات؟كما قلت لك سابقا، لابد لكل المساهمين في هذه العملية أن يقوموا بدروهم
المصدر جريدة الفجر الجزائرية
2012-04-15