ظهـور الإســلام وانتشــاره تبدأ قصة الحضــارة الإسلاميــة على يد أشرف المرسلين محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم) حينمـا أنزل الله على قلبه
القرآن الكريم، الدستور الخالد للإسلام والمسلمين، ليهتدي به البشر في كل زمان ومكان .
{ الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد } (سورة ابراهيم- أية 1)
وقد تكفــل الله بحفظــه باعتبــاره المصــدر الأول للتشريــع في قوله تعالى :
" إنــا نحن نزلنــا الذكر وإنــا له حافظــون " (سورة الحجر- أية 9).
وبعد القرآن الكريــم تأتي سنة الرســول(صلى الله عليه وسلم) التي منها نستكمل أحكام الدين ونستوضح بعض أركان تعاليمه.
فعلى أســاس هــاتين الدعــامتين: القــرآن الكريـــم، والسنة النبوية الشريفــة، تقوم تعاليم الإسلام في الأمور الدينيــة والدنيويــة.
فالإسلام على هذا الأساس: دين أولاً ، ودولة ثانياً ، إلى جانب كونه حضـارة وثقافة ورسالة إصلاحية تتمثل فيها ذرى العلوم
والمعــارف. ومحمد صلــوات الله عليه، ما هو إلا رسول كريم، ومصلح كنير له رسالة سامية يراد له تنفيذها. وبطبيعة الحال
لقيت هذه الرسـالة معارضة كبيرة لأنها تريد من الإنسـان ترك عاداته ومعتقداته التي يعتز بها والتي ورثها عن آبائه وأجـداده
وحررت رسالة الإسلام الإنســان من عبادة غير الله سبحــانه وتعــالى، لأن في عبـادة الإنسان غيره إلغاء لعقله وكيانه وتعطيل
اً لطاقاته المادية والمعنوية، ورفعته على جميع المعتقدات بربطه بجسر روحي ومـادى مع خالق الإنسان دون وسيط أو دخيل،
في الوقت الذى كــانت جميع الأديــان الساــبقة تفصل بين الفرد وخالقه بوساطــات وهياكــل وطقــوس كهنوتيــة قــال تعـــالى:
{ اتخـذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } ( التوبة ـ آية 31 ) ،
وقال تعالى :
{ أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام
بل هم أضل سبيلاً} (الفرقان- آية 43، 44)،
ومن هنا كانت معارضة أصحاب الهوى والمصالح لرسالة الإســلام. والإنسان محافظ بطبعه، ولا يندفع إلى التجديد إلا إذا دفع
إلى ذلك دفعاً . فالحضارات لم تأت عفواً، وإنما جاءت بعد تضحيات كثيرة.
ومن هنا كانت المعارضة لرسالة النبي من جميع نواحيها الدينية والأخلاقية والاجتماعية أمراً طبيعياً.
وقد لجأ أصحاب هذه المعارضة إلى تحدي الرسول (صلى الله عليه وسلم) و الاستهزاء به، واتهامه بشتى الاتهامات، كالجنون،
أو السحر والشعوذة، أو حب الرياسة والسلطان، ثم تطورت المسألة إلى الرغبة في التخلص منه.
وهنا يضطر الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن يغادر موطنه العزيز على قلبه، مكة المكرمة، وهو كاره حزين، متجهاً إلى
"يثرب ". وفي خلال الطريق في مكان يسمى "الجحفة"، واساه الحق سبحانه وتعالى مبشراً إياه بعود حميد في قوله، تعالى:
{إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } (سورة القصص- أية 85).
وبعد مسيرة ثمانية أيام، استقر الرسول(صلى الله عليه وسلم) في، يثرب " في 16 ربيع الأول (20 سبتمبر سنة 622 م)
وهذا ما نسميه بالهجرة، وهو حدث عظيم في تـاريخ الإســلام لأنه يعتبر بدء رسوخ الإســلام وتدعيمه، ولهذا جعله عمر بن
الخطاب بداية التاريخ عند المسلمين.
وجد الرسول (صلى الله عليه وسلم) مدينة "يثرب " منقسمـة على نفسها انقساماً شديداً، فهناك اليهود من جهة، وعرب الأوس
والخزرج من جهة أخرى. واستطاع اليهود أن يوقعوا بين قبيلتي الأوس والخــزرج، فقامت بينهما حروب طاحنة أهمها الموقعة
المعروفة "بيوم بعاث " قبيل الهجرة بنحو خمس سنوات. وفيها هلك من الفــريقين عدد كبير من أكـابرهم وأشرافهم، ممــا أدى
إلى ظهـور اليهود وسيطــرتهم على أراضي ا، يثرب "واقتصادياتها، ورأى المنتصر والمهــزوم من عرب، يثرب)، ســوء مــا
صنعوا، وتطلعوا إلى فترة يسودها السلام والهدوء، والدليل على ذلك تلك الأعمال الأولى التي قام بها الرسول (صلى الله عليه
وسلم) هناك في سبيل توحيد الصفوف وتأليف القلوب.
وهنا يبدأ طور جديــد من أطوار حياة الرسول لم يسبقه إليه أحد من الأنبياء والرسل، وهو طور سياسي أبدى فيه الرسول من
الحنكة والمهـارة مــا مكنه من أن يصــل "بيثرب " وبمجتمع أهل المدينة إلى وحدة سياسية منظمة لم تكن معروفة من قبل في
سائر أنحاء الحجــاز.
وفيما يلي بيان الأسس التي قامت عليها هذه الدولة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة:
(1) بناء المسجد الجامع ليكون مركزا للعبادة، وقاعدة للدراسة والتشاور في الشئون العامة.
(2) المــؤاخاة بين "المهــاجرين " من أهل مكــة و "الأنصــار" من أهل يثـرب، أخوة روحية تنص على وجوب التنــاصر
والتعاون والتكافل.
(3) وضع دستور عرف بـاسم "الكتاب أو الصحيفة"، لتنظيــم هذه الجمــاعة الإسلامية الأولى كأمة واحدة، تســودها الوحدة
والترابط، وكذلك تنظيم العـلاقة بين المسلمين ويهود يثــرب الذين أقرتهــم الصحيفة على دينهم وأموالهم ما داموا مع المسلمين .
وهكــذا استطــاع الرسول (صلى الله عليه وسلم) بقدرته السياسية الفائقة، أن يوحد صفوف هذه الأمة المعقدة بأحزابها وفرقها
المختلفة، وأن يحدد شكل الدولة الإسلامية أو المدينة الإسلامية، كدولة ومدينة في أن واحدCity- State . تسكنها جماعة
متجانسة من الناس، وتنظم أمورها بنفسها وفق دستور مكتوب.
ثم اتسع نطاق هذه الجماعة الإسلاميـة أو دولة الرســول (صلى الله عليه وسلم) بالمدينــة على صورة دولة عربية إسلاميــة،
شمل نفوذها الحجــاز وتهامة ثم الجزيرة العربية كلها، وتلك كــانت حدودهــا عند وفاة الرســول عليه الصــلاة والســلام في
(12 ربيع الأول سنة 11 هـ) (يونيو 633 م).
ولم تلبث هذه الدولة العربية الإسلامية الفتية أن قامت بإنجازات عسكرية وحضارية والسعة النطاق في عهد الخلفاء الراشدين
وخلفــاء بني أميـــة ( 11- 132 هـ/633- 749 م) ومن أهمهــا حركة الفتوحـــات الكبــرى التي زادت في مســاحتهـــا.
مـوقع أرض الحضــارات LAND OF CIVILIZATIONS